المطبخ السياسي الأمريكي يلملم صورة أميركا ولا يسعى لإيقاف الحرب


إيهاب شوقي

لم يعد يشك عاقل في أن الولايات المتحدة هي من تقود الحرب على غزة، ومتورطة في دماء أطفالها ونسائها وشبابها وشيوخها، وأن المعركة الراهنة، كما هي معركة وجودية للكيان ومستقبله الذي بات ضبابيا، هي معركة وجودية للنفوذ الأمريكي في المنطقة.

وربما فاجأت تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن بعض المراقبين، حين طالب نتنياهو بتغيير حكومته ووجّه ما يبدو أنها انتقادات لإدارة الحرب وتحول الرأي العام العالمي في غير صالح الكيان، وربما قام البعض بالبناء على هذه التصريحات ووضع تصورات بأنّ هناك انقسامات أو خلافات، وهو أمر ينبغي تناوله بحرص وبحذر حتى لا نقع تحت طائلة الرهانات الكاذبة، وكي تكون الحسابات دقيقة وخالية من المجازفات.

وهنا ينبغي تناول بعض الحقائق السياسية قبل أن نستعرض التفسير الأمريكي لجوهر تصريحات بايدن، وما يكمن وراء صدورها:

1- الولايات المتحدة ما تزال قوة كبرى بمقاييس علمية، من حيث القوة العسكرية والهيمنة الاقتصادية بهيمنة الدولار عملةً عالمية وبحكم امتلاكها لغالبية أسهم الملفات الدولية واحتفاظها بقرار التعطيل في أضعف الأحوال، وذلك بسبب تبعية العديد من الدول الكبرى والإقليمية والارتباطات العسكرية والاستخباراتية والاقتصادية بما فيهم حتى منافستها الاقتصادية الكبرى وهي الصين.

والقول إن أمريكا لم تعد قوة كبرى هو قول غير دقيق، كما أنه يقلل من جهود وتضحيات محور المقاومة وصموده في مواجهة هذه القوة وطغيانها وتشابك نفوذها، في الملفات كافة التي يواجهها المقاومون بشجاعة وصمود وكفاءة كبيرة.

وهذا لا يعني أنها في ذروة جبروتها، بل هي في تراجع إمبراطوري منذ سنوات، ولكن هذا التراجع يستغرق بعضًا من الوقت وكثيرًا من التفاعلات. ولعل مدى وقوة المقاومة لهذا الطغيان الإمبراطوري هو ما يعجل بالسقوط الإمبراطوري، كما عجّلت حركات التحرر الوطني بسقوط بريطانيا العظمى.

2- الكيان الصهيوني هو أكبر قاعدة أمريكية خارجية، ولا معنى لأي قول يذهب إلى انقسامات أو تضحية بالكيان لصالح علاقات أخرى، فالكيان بالنسبة إلى أمريكا هو ما قاله بايدن تمامًا: “لو لم تكن هناك إسرائيل لاخترعنا واحدة”.

3- ليست أمريكا إلهًا، وليست مخططاتها والكيان فرضًا، ولن يستطيع أحد فرض إرادته على الشعوب إلا بمقدار ما تسمح الشعوب بتمريره، وبالتالي فإنّ خيار المقاومة كفيل بإسقاط كل المخططات الأمريكية وزوال الكيان وطرد أمريكا من المنطقة.

ومن هذه الحقائق السياسية، يمكننا تفسير تضارب تصريحات بايدن وما بدا بأنه نقد أو انقسام أو تعارض، حيث تعيش أمريكا لحظة إمبراطورية صعبة ومفصلية ومركبة، فهي تواجه ملفين في غاية الخطورة على هيمنتها، إحداهما في أوكرانيا والأخر في “الشرق الأوسط”.

وهاتان المنطقتان، لا يوجد تفاضل بينهما ولا أولويات متقدمة؛ لأن كلتاهما تتعلقان بالأمن القومي الأمريكي، وما بدا أنه بعد عن المنطقة، في وقت من الأوقات، كان للتفرغ للمحيط الروسي والصيني، ولكن بوجود ضامن للشرق الأوسط يتمثل في وجود الكيان وما توسم الأمريكي له بأنه مسار جديد من التطبيع والتعاون، وبالتالي سلة إقليمية في الجيب الأمريكي، وأن المقاومة بمثابة منغصات فقط وليست تهديدات وجوديّة.

أما ما تبين من صمود المقاومة، في جبهاتها ووحدة ساحاتها وعدم التعاطي مع التهديدات وفشل الحصار والعزلة في إضعافها، فهو ما أعاد أمريكا واستنفرها لاستلام مفاتيح غرفة عمليات قيادة العدوان من الكيان.

أمريكا حاليًا تحاول الحفاظ على ما يلي:

أولا: سمعة حزبها “الديمقراطي” وهي مقبلة على استحقاق انتخابي.

ثانيا: تحاول الحفاظ على سمعتها الدولية وهي مقبلة على فضيحة دولية بانعدام القانون الدولي وحمايتها لكيان ارتكب جميع الموبقات، والتي شنّت ـمريكا الدعايات والحروب على خصومها باتهامات وممارسات أقل كثيرًا مما يرتكبه الكيان.

ثالثا: تحاول الحفاظ على محورها الأوروبي ومنظومتها “الليبرالية” بالتنصل من الجرائم المرتكبة.

ولكنها في الوقت ذاته؛ لا توقف الحرب وتحاول أن تبدو في صورة من يكبح جماح الكيان الغاضب، والذي له الحق في الغضب، ولكن يجب ان يقوم بترشيده وفقا لما تحاول أمريكا تكريسه!

ربما فسر ديفيد شينكر، في مقاله في معهد واشنطن، من حيث لا يقصد هذا السلوك الأمريكي، فقد كتب مقالا يحذر فيه من وقف إطلاق النار قبل القضاء على حماس. ولكن شينكر وهو يستعرض أفكاره، فسر لنا مخاوف أمريكا، إذ قال ما نصّه:

“حذرت الإدارة الأمريكية “إسرائيل” من أنه إذا استمر الارتفاع في عدد الضحايا بين المدنيين الفلسطينيين، فقد يؤدي ذلك إلى تعزيز شعبية “حماس” وحلول “الهزيمة الاستراتيجية محلّ النصر التكتيكي”، على حد تعبير وزير الحرب الأمريكي لويد أوستن… وفي المرحلة المقبلة، سيتمثل التحدي الذي سيواجه واشنطن في مواصلة دعمها للعمليات العسكرية الإسرائيلية مع منع نشوب حرب إقليمية، وتجنب العزلة الدبلوماسية، وزيادة التركيز على الشراكات الإقليمية. إلا أن ذلك ليس بالأمر السهل”.

وبعد مقارنة شينكر ما يجري حاليًا بحرب تموز، والتي وصفها بأنها انتهت نهاية خاطئة بسبب تنامي حزب الله بعدها، وهو ما لا ينبغي تكراره مع حماس، يقول شينكر: “وبغض النظر عن الوقت الذي تستسلم فيه إدارة بايدن أخيرًا للضغوط من أجل وقف إطلاق النار، فينبغي لها أن تتعلم الدرس من العام 2006، فقد أنهى قرار “مجلس الأمن الرقم 1701” الحرب في لبنان؛ لكنه كفل حتمًا اندلاع صراع آخر أكثر تدميرًا بين إسرائيل وحزب الله في المستقبل. ولذلك ما يجب استخلاصه من العام 2006 هو أن وقف إطلاق النار الخاطئ ـ الهدنة التي تُبقي “حماس” في مكانها ـ لن يؤديا إلا إلى تأجيل الجولة التالية من إراقة الدماء”.

هنا يمكن استخلاص المخاوف الأمريكية، بأن أمريكا لا تريد تكرار خطأ 2006، وأن أي هدنة أمريكية يجب أن تضمن عدم استغلال المقاومة لها، وأن الهدف الأمريكي هو تصفية المقاومة.

رابط الخبر
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *