عاجل

المقاتلون الأجانب.. غزاة جدد تحت عباءة تحرير الشام

منذ أن اشتعلت نيران الحرب السورية، لم تتعرض البلاد لاجتياح أخطر من ظاهرة المقاتلين الأجانب. دخلوا تحت رايات “الجهاد”، واليوم يتوارون خلف عباءة “الحكومة المؤقتة” التي لم تعد سوى واجهة مهترئة لسلطة يمسك بها أبو محمد الجولاني، قائد “هيئة تحرير الشام”.

في ظاهر الصورة، تزعم “حكومة الجولاني” أنها تدير مؤسسات مدنية مستقرة، لكن ما تحت السطح يشي بشيء آخر: شبه دولة تتحكم فيها تشكيلات أمنية مدججة بالمقاتلين غير السوريين الذين يحملون في جيوبهم ليس فقط وثائق قانونية مزورة، بل أيضاً تواطؤاً صامتاً وعمىً سياسياً من الجهات التي تدعمهم. من الشيشان إلى تركستان، من البوسنة إلى الأوزبك، يبدو المشهد في سوريا أقرب إلى قاعدة بيانات لتنظيمات عابرة للحدود، لا لحكومة محلية تمثل السوريين.

فما خطورة هذا الوجود الأجنبي في قلب “حكومة” يزعم الجولاني أنها تمثل تطلعات السوريين؟

خزان الخراب

من هم هؤلاء المقاتلون الأجانب؟ هم القادمون من هوامش العالم، لا يجمعهم مشروع وطني، ولا يحملون فهمًا للواقع السوري. جاء بعضهم مدفوعًا بالتطرف، وآخرون جرفتهم نزعة المغامرة أو الإغراء المالي التركي والقطري. اندمجوا في جماعات جهادية عابرة للحدود مثل “جند الأقصى” و”الحزب الإسلامي التركستاني” و”جماعات الألبان”، ثم ذابوا داخل المنظومة الأمنية والعسكرية لهيئة تحرير الشام التي يقودها الجولاني.

هؤلاء ليسوا لاجئين يبحثون عن أمن وسلام، ولا طلاب علم يتوقون إلى المعرفة والتطوير. إنهم مقاتلون مدجون بالسلاح والتدريب، بعضهم يحمل وصمة الإرهاب على جبهته وفق اللوائح الدولية . الجولاني، الذي يرتدي اليوم البدلة المدنية ويحاول عبثاً التحدث بلغة الدولة، لم يتخلَّ عنهم. بل أعاد تدويرهم، ومنحهم غطاءً قانونيًا داخل “حكومته”، وجنّد بعضهم في الجهاز الأمني والعسكري لهيئة تحرير الشام، بل وسهّل لهم الإقامة، والسكن، وبعض الامتيازات .والأخطر من ذلك؟ منحهم صلاحيات على الأرض تتجاوز صلاحيات القادة المحليين.

اليوم في سوريا، بإمكان مقاتل أيغوري أن يشرف على معسكر، أو يقود قوة أمنية، أو يصدر أوامر لمحكمة “شرعية”. ما يفتح المجال للسؤال: هل تشهد المنطقة ولادة دولةٍ جديدة أم شركة أمنية عابرة للحدود ترتدي عباءة الدين والسياسة؟

شريان التهريب

منذ بداية الحرب الأهلية السورية، تجلى دور تركيا بشكل فاضح في تسهيل تهريب المقاتلين الأجانب المتطرفين إلى الأراضي السورية، وبدت كأنها بوابة مفتوحة لأصحاب الأجندات الإرهابية. ففي الوقت الذي ادّعت فيه أنقرة دعمها للحريات والديمقراطيات، فإنها في الحقيقة عملت على تعزيز ظهور الكيانات المتطرفة. التقارير الدولية، من بينها تقارير الأمم المتحدة والاستخبارات العالمية، تؤكد أن الحدود التركية كانت مفتوحة لهؤلاء المقاتلين، الذين وصل عددهم إلى الآلاف وشقّوا طريقهم، بلا عوائق، إلى الداخل السوري.

تصريحات المسؤولين الأتراك لا تعدو كونها مجرد دعاية زائفة تُخفي خلفها السياسات المشبوهة التي يتبعها نظام أردوغان. وقد أظهرت الدراسات، من بينها أبحاث من المركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسي (ICSR)، أن تركيا كانت بمثابة قاعدة لوجستية للمسلحين الأجانب، حيث تم ضبط شحنات أسلحة وذخائر تُسلم لدعم الجماعات المسلحة، بما فيها الجماعات الإرهابية الأكثر تطرفًا. الشواهد تتراكم حين يظهر إلى العلن أن مناطق مثل غازي عنتاب قد تحولت إلى مركز تنسيق للإرهاب، مع تجميع المقاتلين وتقديم الدعم لهم، ما يعزز من الصورة القاتمة لمخططات أنقرة.

وبالتالي، فإن الدور الذي تلعبه تركيا في دعم وتهريب المقاتلين لا يوفر فقط بيئة خصبة لعنف شديد التأثير على سوريا، بل يشكل تهديدًا للأمن الإقليمي بأسره. إن وجود هذه العناصر المتطرفة يتجاوز الحدود السورية، ويُهدد استقرار دول كالأردن والعراق، مما يُفيد بأن تركيا لا تنشر الفوضى فقط، بل تدفع الدول المجاورة إلى أتون من الخطر الدائم.

ميزة

يشكل تواجد المقاتلين الأجانب في مفاصل جيش الجولاني بحجمٍ يتجاوز المسموح، وبنفوذٍ يتعدى الحدود التنظيمية، وبأجندات لا تخدم إلا الخراب مصدر قلق استراتيجي عميق، ليس فقط للداخل السوري، بل للأمن الإقليمي برمّته.

داخلياً، لا يخضع هؤلاء لأي مساءلة محلية، بل ينفذون عمليات مستقلة، يتنقلون عبر الحدود بوسائل تهريب أو بتغاضٍ مخابراتي، ويمارسون دوراً في تدريب وتجنيد العناصر الجدد، بالإضافة إلى أنهم يشكلون “مخزوناً” جاهزاً لأي مشروع جهادي عابر للمنطقة .

وعليه فإن الضوء الأخضر للسماح لهم بالانخراط في جيش الجولاني، تحت ذرائع “الكفاءة القتالية” أو “الخبرة الميدانية”، يعني عملياً أن سوريا باتت بيئة حاضنة لمقاتلين مدربين على حرب العصابات، لا يؤمنون بفكرة الدولة، ولا يقبلون بالحدود السياسية، ويمكن أن يتحولوا في أي لحظة إلى جماعات منشقة، مسلحة، خارجة عن السيطرة.

هذه الظاهرة، ولا سيما في حال انهيار سلطة الجولاني في ظل تصاعد أصوات فصائل متشددة في سوريا ، ستؤدي إلى تحول المقاتلين الأجانب إلى ميليشيات منفلتة، تستنسخ تجربة “جبهة النصرة” الأولى، أو أسوأ من ذلك: إعادة بعث لتنظيم داعش في نسخته غير المُعلنة.

يمثل وجود هؤلاء المقاتلون قنبلة موقوتة لا تهدد فقط الأمن الداخلي، بل أيضاً الاستقرار الإقليمي، إذ أنهم يشكلون بؤرة لجذب المزيد من المقاتلين، ما يعزز ظاهرة تصدير الإرهاب إلى الدول المجاورة.

لم يعد التخوف من تصاعد العمليات الإرهابية حكراً على الأراضي السورية، بل أصبح يقض مضاجع دول كالأردن، والعراق، ولبنان وغيرها. يتغلغل هؤلاء المجاهدون عبر الحدود كما تتسلل خيوط العنكبوت، مشكلين تهديداً واضحاً لتلك الدول التي تعاني تحدياتها الخاصة، ما يحوّل هذه الظاهرة إلى سلاح دمار شامل، تُستخدم فيه الأراضي السورية كميدان تجريبي لأفكار الإرهاب، ما يُفضي إلى زعزعة الاستقرار في دول كانت تعتبر حتى وقت قريب ملاذات آمنة.

اغتيال للهوية السورية

إن الخطر الذي يواجه سوريا لا يقتصر على الجانب الأمني فحسب، بل يتجاوز ذلك ليشكل تشويهاً مستمراً لهويتها الوطنية. وجود هؤلاء “المجاهدين” في مؤسسات هيئة تحرير الشام يعد نذير شؤم لمستقبل البلاد. فهم لا يفهمون طبيعة المجتمع السوري، ولا يعترفون بموروثه الديني والثقافي، بل يتعاملون مع تعقيداته الاجتماعية باحتقار. يعيش هؤلاء وفق تصور مفرغ من الواقع، مستندين إلى كتيبات جهادية مستوردة من كهوف الأيديولوجيا العابرة ، ويروّجون لفكرة أن لديهم “تفويضاً شرعياً” لقيادة الساحة السورية.

من خلال فرض أفكار غريبة ومستوردة، يساهم هؤلاء في اختناق المجتمع السوري، ما يفتح المجال لثقافة التكفير والفرز العقائدي التي لا تعبر سوى عن عدم فهم واقعي لحقيقة وطنهم. ينظر الكثير منهم إلى المجتمع السوري، ممعنين في التشكيك، ويصفونه بأنه “جاهلي” أو “غير ملتزم شرعياً”، مما يترجم غالباً إلى عنف ممارس بأشكال مختلفة، بدءاً من الاعتقالات التعسفية، وصولاً إلى التصفيات الجسدية، بالإضافة إلى التدخل السافر في تفاصيل الحياة اليومية.

إن هؤلاء ليسوا شركاء فيما يُسمّى بالثورة، بل أدوات فاعلة لاختطاف حلم السوريين في التحرر. ما يحدث في سوريا ليس مشروع دولة يطمح إليه المواطنون، بل هو مشروع وصاية أمنية تقوده هيئة تحرير الشام، حيث تتوزع الأدوار بين جهاز أمني يتزعمه الجولاني، ومقاتلين أجانب يستغلون كورقة ضغط .والنتيجة مجتمعٌ محاصر، ممنوع من التعبير، ومراقب من قبل غرباء. إنه مجتمع بلا صوت، بلا أمن، وبلا مستقبل في ظل هذا “التوازن القاتل” بين الشرعية والمرتزقة.

بقلم: أحمد علي إبراهيم

صحفي ومحلل سياسي سوري

نشر الخبر اول مرة على موقع :www.alalam.ir
بتاريخ:2025-06-11 19:06:00
الكاتب:
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى