لبنان يستورد بـ 20 مليار دولار ويصدّر بـ 3.7

من المتوقع أن يقترب حجم الاستيراد في لبنان حتى نهاية العام الحالي من عشرين مليار دولار، ما يعني عجزًا كبيرًا في الميزان التجاري نتيجة الفارق الواسع بين الواردات والصادرات المحدودة. وفي حين يستورد لبنان معظم حاجاته الأساسيّة، تبقى قدرته التصديرية ضعيفة، ما يكرّس عجزًا تجاريًا قد يتجاوز الـ 15 مليار دولار.
لا يظهر العجز في الميزان التجاري بشكل مباشر في ميزان المدفوعات، بفعل تدفق الدولارات من الخارج، ولا سيّما من خلال تحويلات المغتربين والإيرادات السياحية والاقتصاد النقدي. غير أن هذا التوازن يبقى شكليًّا وهشًا، لأنه قائم على الاستهلاك المموّل من الخارج لا على الإنتاج.
يُشكّل هذا النموذج الاقتصادي خطرًا على الاستقرار المالي في أي لحظة تراجع في هذه التدفقات، ما يجعل دعم القطاعات الإنتاجية وضبط الاستيراد وتعزيز الصادرات ضرورة ملحّة لأي مسار إنقاذ اقتصادي مستدَام.
حالة تاريخيّة
في هذا الإطار، يُوضح الخبير الاقتصادي وعضو هيئة مكتب المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في لبنان أنيس بو دياب، لـ “نداء الوطن”، أن “ظاهرة العجز الكبير في الميزان التجاري ليست جديدة، بل هي حالة تاريخية في لبنان. وقد تمّ تسجيل أدنى مستوى للعجز في الميزان التجاري خلال سبعينات القرن الماضي، حين شهد لبنان طفرة ملحوظة في القطاع الصناعي وارتفاعًا في حجم التصدير، خصوصًا باتجاه الكويت في أواخر الستينات وبداية السبعينات. في تلك المرحلة، لم يكن العجز التجاري يتجاوز 20 إلى 25 %، وكانت الصادرات تغطي ما بين 70 إلى 75 % من قيمة الواردات”.
يلفت بو دياب إلى أن “الوضع اليوم مختلف تمامًا، الأمر الذي يعكس تراكم العجز التجاري عبر السنوات. ففي عام 2022 بلغ حجم الاستيراد حوالى 16.5 مليار دولار. وفي عام 2023 سجّل نحو 18 مليار دولار، بينما سجّل في عام 2024 ما يقارب 17.3 مليار دولار”.
ويُشير إلى أنه “في المقابل، بلغت قيمة الصادرات حوالى 4.5 مليارات دولار في عام 2022، وحوالى 4 مليارات دولار في 2023، في حين وصلت في العام الماضي إلى ما يقارب 3.5 إلى 4 مليارات دولار”.
وجهة الاستيراد
يتوقع بو دياب أن “يبلغ حجم الاستيراد هذا العام حوالى 20 مليار دولار، مقابل صادرات أقلّ مما كانت عليه في العام الماضي، والتي أقدّرها بحوالى 3.7 مليارات دولار. ومن الطبيعي أن علينا العمل بشكل أكبر على زيادة حجم صادراتنا”.
وفي هذا الصدد، يسأل: “لكن هل كان كل هذا الاستيراد موجّهًا فعليًا إلى السوق المحلية؟”، ليُوضح أنه “لنعد قليلاً إلى بداية هذا العام، أو إلى كانون الأول 2024، أي نهاية العام الماضي وبداية هذا العام. ففي تلك الفترة، سقط النظام السوري السابق، وجاء نظام جديد، وبدأت الأوضاع تستتب تدريجيًا، كما بدأت الحركة التجارية تُفتح شيئًا فشيئًا، وتراجع لاحقًا تأثير قانون قيصر والعقوبات على سوريا. هذا الأمر أتاح إمكانية التصدير من لبنان إلى سوريا”.
ويُردف قائلًا: “كما هو معروف كانت سوريا تعاني في بداية العام من أزمة محروقات، قبل أن تُحل لاحقًا ويُحرَّر سعر المحروقات هناك، ما جعل الأسعار في سوريا أعلى ممّا هي عليه في لبنان. نتيجة ذلك، كان جزء كبير من السلع المستوردة إلى لبنان يُعاد تصديره أو يُنقل إلى سوريا، وأحيانًا عبر التهريب، وهذا الأمر لا يزال قائمًا جزئيًا. وبالتالي، جزء من الاستيراد هذا العام لم يكن مخصّصًا للسوق اللبنانية فقط”.
إضافة إلى ذلك، يلفت بود ياب إلى أنه “شهدنا صيفًا نشيطًا بدأ فعليًا من أوائل تموز، ما أدّى بدوره إلى ارتفاع حجم الاستيراد. وبناءً عليه، من المتوقع أن يتجاوز العجز في الميزان التجاري حوالى 17 مليار دولار”.
ميزان المدفوعات
“رغم هذا العجز الكبير”، يُشير إلى أنه “لا يوجد عجز في ميزان المدفوعات”.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، “كيف لا يوجد عجز في ميزان المدفوعات في حين أن العجز التجاري يبلغ حوالى 16.3 مليار دولار (استيراد 20 مليارًا مقابل صادرات 3.7 مليارات)؟”.
يُجيب بو دياب: “يكمن التوازن في مصادر أساسية، أبرزها:
إيرادات القطاع السياحي التي بلغت هذا العام حوالى 7 مليارات دولار.
تحويلات المغتربين التي تتراوح بين 6 و7 مليارات دولار وفق الأرقام الرسمية، مع الإشارة إلى أن هناك تحويلات إضافية تتم مباشرة من يد إلى أخرى، أو تُنقل نقدًا عبر المسافرين، وبالتالي لا تُسجَّل رسميًا.
تحويلات أرباح المحافظ الاستثمارية الخارجية، إذ إن بعض المحافظ الموجودة خارج لبنان تُحقق أرباحًا تُحوَّل إلى الداخل.
بعض الاستثمارات الخارجية التي لا تتجاوز، برأيي، حوالى 350 مليون دولار هذا العام.
كل هذه الموارد تُغطي العجز في الميزان التجاري، وبالتالي لا يظهر عجز في ميزان المدفوعات، بل قد يتحقق أحيانًا فائض”.
إيجابيّات… وسلبيّات
أمّا في ما يتعلّق بالإيجابيات والسلبيات المترتبة عن زيادة حجم الاستيراد، فالإيجابيات وفق بو دياب تكمن في “تأمين السلع للمستهلك اللبناني بسهولة، من أهم الإيجابيات أن جميع السلع متوفرة في السوق اللبنانية، ما يمنح المستهلك حرّية واسعة في الاختيار ويؤمّن معظم احتياجاته اليومية. يعود ذلك إلى حرّية الاستيراد التي تميّز الاقتصاد اللبناني.
تحويل لبنان إلى منصة تجارية، حجم الاستيراد الكبير يمكن أن يجعل من لبنان منصّة لإعادة التصدير إلى دول أخرى، خصوصًا مع تحسّن الأوضاع الأمنية وعودة العلاقات اللبنانية – العربية إلى طبيعتها. ولبنان تاريخيًا لعب دورًا أساسيًا في التجارة بالجملة والمفرّق، وهو مؤهّل للاستفادة من هذا الدور مستقبلًا.
بالنسبة للسلبيات، يعتبر أن ” زيادة حجم الاستيراد تتسبّب في منافسة قاسية للصناعة الوطنية، حيث أن ارتفاع حجم الاستيراد يفرض منافسة شديدة على المنتجات المحلية، ما يهدّد الصناعة الوطنية الضعيفة أساسًا. لذلك من الضروري حماية القطاعات الصناعية ودعمها لرفع قدرتها التنافسية محليًا وخارجيًا”.
كما يتسبّب باستنزاف العملة الصعبة، على اعتبار أن استيراد بما يقارب 20 مليار دولار سنويًا يعني خروج 20 مليار دولار من لبنان. ولو لم تكن هناك تحويلات المغتربين، لكان العجز في ميزان المدفوعات ضخمًا جدًا، ما كان سيؤدي إلى مزيد من الضغط على سعر صرف الليرة وتراجع القدرة الشرائية”.
إضافةً إلى “ارتفاع الفاتورة النفطية، لا سيّما أن المحروقات تشكّل حوالى 30 % من إجمالي الاستيراد، وهي في حدّ ذاتها مشكلة كبيرة. عند امتلاك لبنان موارد نفطية مستقبلًا، أو عند تأمين كهرباء بشكل مستدام، من المتوقع أن تنخفض فاتورة الاستيراد بين 1.5 و2 مليار دولار، نسبةً إلى الاستهلاك الذي يتوجّه اليوم للمولدات الخاصة والقطاعات الصناعية والخدماتية”.
تعزيز الإنتاج والصادرات
وبناءً على ذلك، يُشدّد بو دياب على ضرورة “أهمية تعزيز الإنتاج والصادرات، حيث من الضروري حماية الصناعة الوطنية وزيادة حجم الصادرات لتصحيح الخلل التجاري. فوفق خطة وزارة الاقتصاد، يمكن رفع الصادرات من 3.5 مليارات دولار إلى نحو 7 مليارات مع حلول 2030، ما يشكّل عنصرًا أساسيًا لتخفيف العجز في الميزان التجاري وتحسين أداء ميزان المدفوعات”.
كما يأخذ بو دياب بالاعتبار، نقطة مهمة وهي أن “ارتفاع أسعار الذهب والفضة عالميًا أسهم بدوره في زيادة فاتورة الاستيراد. فلبنان يستورد الذهب والفضة ويعيد تصديرهما، وبالتالي فإن أي ارتفاع في أسعار هاتين السلعتين ينعكس مباشرة على قيمة الفاتورة الإجمالية للاستيراد”، مُضيفًا “إلى جانب ذلك، فإن الارتفاع في الأسعار العالمية عمومًا – وخاصة أسعار المواد الأولية – إضافة إلى ارتفاع تكاليف الشحن والنقل، كلها عوامل أدّت إلى زيادة كلفة الاستيراد، وبالتالي ارتفاع قيمة الفاتورة الاستيرادية بشكلٍ عام”.
بناءً على ذلك، فإن معالجة الخلل البنيوي في الميزان التجاري تبقى أولوية أساسية لأي مسار إنقاذ اقتصادي سليم، من خلال دعم القطاعات المنتجة، وتحفيز الصادرات، وضبط فاتورة الاستيراد.
The post لبنان يستورد بـ 20 مليار دولار ويصدّر بـ 3.7 appeared first on Lebanon Economy.


