د. حسن أحمد حسن
إذا كان المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين، فقد استطاع الكيان “الإسرائيلي” أن يبرهن على أنّ غالبية العالم غير مؤمن، وأنّ الرأي العام الإقليمي والعالمي ما يزال يُلدغ مئات المرات يومياً منذ ما قبل الإعلان عن إنشاء الكيان الاحتلالي عام 1948 وحتى تاريخه، وإذا أردنا تنحية الجانب الروحي واللاهوتي عن عقم الجدل السياسي وحصَرنا الموضوع في حرب الإبادة المستمرة بحق الفلسطينيين منذ تشرين الأول العام الماضي فالصورة تكون أقرب إلى مئات الكفوف “عن غفلة” التي يتلقاها الرأي العام الإقليمي والدولي، وهذا بحدّ ذاته أحد أهمّ أسلحة حرب الإبادة الفتاكة التي يستخدمها صانع القرار الصهيو ــ أميركي مطمئناً إلى أن العالم يتشظى بين من يفتح أشداقه مستغرباً، وبين من يمنّي النفس باحتمال تبدّل مدخلات اللوحة، وثالث يحلم بانهيار الكيان الإسرائيلي وزواله من دون دفع ضريبة باهظة، ورابع ينتظر ممارسة إدارة بايدن ضغوطات على حكومة نتنياهو، وخامس يتشفى بزيادة أعداد الضحايا الأبرياء وامتداد الخراب والدمار إلى كل ركن وزاوية في غزة، واحتمال الانتقال إلى جنوب لبنان وغيره، وسادس يطلب من أسياده في تل أبيب وواشنطن الإسراع بوأد كلّ ما له علاقة بفلسطين والقضية الفلسطينية، وسابع يكشر عن أنيابه الزرقاء وينخرط في تعميم روح اليأس والإحباط والقنوط والدعوة للتسليم بما يسمّونه “واقعية سياسية وميدانية”، وثامن يكتفي بجَلد الذات والبكاء على الأطلال والتذرّع بأنه لا حول ولا طول إلا بالدعاء على الحكومة الخفية والشكوى لله، وفي الوقت نفسه المجاهرة بالدعاء ليطيل الله في عمر نتنياهو وبقية القتلة المجرمين، وتاسع يتظاهر بالتهديد والوعيد ورفع الصوت المندّد بالجرائم الصهيونية في الوقت الذي تكون سفنه تفرغ محتوياتها في الموانئ الإسرائيلية لتمكين القتلة المجرمين من رفع وتيرة التوحش في الإبادة أكثر، وعاشر يتساءل بخبث وحقد عن الردّ المنتظر، ومتى سيردّ هذا الطرف أو ذاك من محور المقاومة على تفرعن نتنياهو بمباركة نمرود العصر الذي يظنّ نفسه إلهاً في بلاد العمّ سام، و… و… إلخ…
ومن حق المتابع العادي أن يتساءل، وماذا بعد؟ وما سر الحديث عن أسبوع يتلو آخر وشهر ينطح تاليه، والعالم يتفرّج على تراجيديا الإبادة من دون أن يستطيع وقف شلال دم الطفولة المهدور ظلماً وعدوناً؟
باقاتٌ من أمل كاذب، وأوهامٌ تمّ تغليفها بأمنيات الممكن والمحتمل وضرورة تحمّل وجع اليوم للوصول إلى الغد الأفضل، فإذا باليوم يطول ويمتدّ، وبالغد العاجز عن الإشراق لا يأتي طالما الليل بهيم والدجنة تطبق على البصيرة قبل البصائر، وتسدّ جميع المنافذ وحتى الثقوب والشقوق الصغيرة لضمان منح تل أبيب فرصة إضافية تلو الأخرى للإجهاز التام على كلّ حي في غزة، ليكون ذلك مقدمة مطلوبة ومدخلاً ضرورياً لاستكمال إفناء شعوب المنطقة أو ليّ عنقها لتقبل راضية بدور الخادم الذليل، وأبناء الأفاعي يدركون استحالة تحقيق هذا الهدف الشيطاني، وارتباط العجز عن تحقيقه ببدايةً حتميةً لأفول أمجادهم التي يشيدونها بالجماجم وأشلاء الضحايا المتفحمة والرافضة أن تعيش مسلوبة الكرامة والإنسانية.
هكذا ومن دون مقدمات يتفاجأ فرسان التحليل وخيَّالو أحصنة السراب بموقف نتنياهو وطرحه الجديد المتضمّن أنّ معبر فيلاديلفيا شأن استراتيجي “إسرائيلي”، وليس موضوعاً أمنياً قابلاً للنقاش والتفاوض، فالنتن المذكور يريد “إسرائيل” آمنة بالمطلق، ولا يعنيه أمن أيّ دولة أو شعب آخر، وقد يكون من المفيد هنا الإشارة إلى بعض العناوين والأفكار العامة التي تساعد على اتضاح الصورة أكثر، ومنها:
*تل أبيب ليست بوارد وقف إطلاق النار، ولا يعنيها ارتفاع حدة الأصوات التي تنتقد جرائمها طالما واشنطن شريكة في حرب الإبادة الجماعية والتهجير القسري، ولها مصلحة كبرى بذلك، وكلّ ما تبقى تفاصيل وحقن مهدئة للاعتياد على منظر اغتصاب القيم الإنسانية ونحر الطفولة بدم بارد طالما المنظر يتكرر يومياً.
*إدارة بايدن لا تقلّ حرصاً عن حكومة نتنياهو في استمرار الوضع على ما هو عليه، ولا ضير لديها في رفع منسوب التوحش أكثر طالما إيقاع الاشتباك ما يزال مضبوطاً بعض الشيء، حتى وإنْ أدى الإيغال بسفك الدماء والتدمير إلى توسيع مسرح العمليات، فأية خسائر تتكبدها واشنطن تبقى أقلّ بكثير من الخسارة الاستراتيجية المتمثلة بانتهاء هذه الجولة من الصراع من دون انتصار واضح المعالم، لأنّ ذلك يعني خسارة استراتيجية، ومقدمة للاعتراف بهزيمة ستتحوّل من موضعية إلى شاملة، وهذا يهدد النفوذ الجيوبولتيكي للولايات المتحدة الأميركية قبل أن يهدّد الكيان الإسرائيلي والمسبحين بعرش هذا الكيان اللقيط.
*ما هو الضامن ألا يقول نتنياهو أو من يأتي بعده في الغد القريب أو البعيد إنّ العمق المصري والأردني والسوري واللبناني والخليجي ومياه البحر المتوسط والبحر الأحمر كاملة شأن استراتيجي يخص “الأمن القومي الإسرائيلي”، ومن يقبل اليوم بأنّ بالإصغاء إلى هذا المنطق المقلوب الذي ينطلق من أن محور فيلادلفيا شأن استراتيجي “إسرائيلي” لا يحقّ له أن يتحدث لاحقاً بعكس ذلك.
*السيطرة الإسرائيلية على محور فيلادلفيا انتهاك للسيادة المصرية قبل أن تكون جزءاً من حرب الإبادة الجماعية ضد غزة والغزاويين، ودخول الجيش الإسرائيلي إلى رفح والسيطرة الحالية العسكرية على كامل محور فيلادلفيا اعتداء صارخ وعلني على الدولة المصرية، وانتهاك سافر لاتفاقية الإذعان والذل “كامب ديفيد” التي وقعها السادات مع الإسرائيليين سابقاً، والصمت العملي المصري اليوم لا يبرّره إطلاق بعض التصريحات الكلامية التي تمنح القتلة ومصاصي الدماء في تل أبيب زخماً إضافياً للإسراع أكثر في إنجاز الإبادة المطلوبة، فعندها ستنتقل السكين إلى العنق المصري بأسرع ما قد يخطر على الذهن.
*أما من يسأل عن ردّ هذا الطرف أو ذاك من محور المقاومة سواء أكان بدافع الحميَّة المشروعة، أو الرغبة بكسر الستاتيكو المؤلم، أو محاولة للاستخفاف بقدرات المحور المقاوم وتثبيط العزائم، فيمكن باختصار تكثيف الأجوبة وتلخيصها بما يلي:
ـ في كل يوم يتمّ الردّ على الوحشية الأميركية الصهيونية وفق ما تسمح به محدّدات التفكير الإستراتيجي المقاوم لضمان الوصول إلى يوم آتٍ وحتمي لنشوب الحرب الأكبر والأشمل التي لا تقبل حساباتها الغفلة ولا الخطأ في تقدير المواقف.
ـ في أي وقت يمكن لأي طرف اتخاذ قرار الحرب وإشعالها بشكل عملي، لكن قرار الحرب وإشعال المنطقة، وكلّ ما ينتج عن الحرب مسؤولية كبرى أخلاقية وإنسانية وقانونية، وقادة محور المقاومة هم الأدرى والأكفأ باختيار اللحظة التاريخية الأنسب لاتخاذ مثل هذا القرار المصيري.
ـ حربنا ليست مع الكيان وحده، بل معه أميركا والغرب الأطلسي وكثير غير ذلك بمن فيهم بعض من أبناء جلدتنا العربية، ومهما بلغت قدرات محور المقاومة العسكرية بالحسابات التقليدية، فالمحور المعادي متفوق بالقوة العسكرية والطاقة التدميرية.
ـ تفوق المحور المعادي عسكرياً لا يقلق أطراف محور المقاومة، فلدينا معادل موضوعي يصحّح الخلل ويرجّح الكفة لصالح المقاومة، وهو العامل المعنوي والإنسان المتجذر بأرضه، والمتيقن انّ الشهادة في سبيل الكرامة والدفاع عن المقدسات بداية الخلود، وليست فناء، في حين انّ الخوف من الموت لدى جميع من يصطف تحت العباءة الصهيو أميركية يمثل الرعب الذي يحاصر حياتهم اليومية.
ـ الحرب الشاملة في نهاية المطاف حتمية لأنّ العدو الصهيوني أقرّ وأعلن أنها حرب وجود، وجميع أنصار المقاومة أكدوا ذلك منذ تبني القضية الفلسطينية قضية مركزية أولى، وأيّ تأخير في اندلاع تلك الحرب لضمان توفير كلّ متطلباتها أراه خطوة في الاتجاه الصحيح لتقليل الخسائر أكبر قدر ممكن.
ـ اليقين بالنصر مطلق حتى لو اشتعلت الحرب اليوم او غداً، لكن انْ كان بالإمكان بلوغ النصر بخسائر اقلّ، فهذا عين الصواب.
ـ محور المقاومة لا يعيش في جزيرة منعزلة، بل هو جزء من هذا العالم، ولديه أصدقاء وحلفاء وشركاء، ومن المهمّ أخذ كلّ ذلك بالحسبان قبل اتخاذ قرار الحرب، وما يجري في أوكرانيا وبحر الصين ليس منفصلاً عما يجري في المنطقة، والحديث عن زيادة التدابير العسكرية في القواعد الأميركية المحتلة في سورية وغيرها، ومحاولات إعادة إحياء داعش وتدويره برعاية أميركية، وتبدّل لهجة الخطاب التصالحي التركي، وكثير غير ذلك يؤكد أنّ أفق المواجهة مفتوح على المجهول، والاشتباك الدائر على مختلف مسارح العمليات يتصاعد ويزداد حدة، لكنه ما يزال مضبوط الإيقاع، وقد لا يكون كذلك في الغد القريب.
ـ ما يجري فصل في معركة في حرب وجودية طويلة الأمد أعدّ لها عشاق المقاومة ما يستطيعون، وقد يكون يلزمهم الكثير من الإعداد الإضافي النوعي، لكنهم لن يُحْشَرُوا في نفق المفاجأة الإستراتيجية في أيّ وقت تخرج فيه الأمور عن السيطرة، ويتمّ الانتقال من الاشتباك المزمن والمستعصي إلى الحرب الوجودية.