تحديّات اقتصاديّة كثيرة أمام سوريا… ووعود دوليّة وخليجيّة
يشهد الاقتصاد السوري تحديات كبيرة منذ بداية النزاع العسكري في عام 2011، حيث تأثرت مختلف القطاعات القتصاديّة بشكل بالغ. تمّ تدمير البنية التحتية، وتوقف العديد من الصناعات، وواجهت الليرة السوريّة تراجعاً حادّاً أمام العملات الأجنبيّة، ما أدّى إلى انخفاض القدرة الشرائيّة للسوريين وارتفاع التضخم. لكن مع سقوط نظام الأسد، فإنّ التحديات قد تختلف عن السابق.
تتجه الأنظار اليوم نحو النظام الجديد في سوريا، حيثُ أنّ إعادة الإعمار تعتبر أحد أكبر التحديات الإقتصاديّة المستقبليّة، حيث يتطلّب استثمارات ضخمة وجهوداً مكثفة لإعادة بناء ما دمّرته الحرب. في هذا السياق، يترقب السوريون مصير الليرة السورية التي شهدت تقلبات حادة في الآونة الأخيرة، فهل يُمكن للاقتصاد السوري التعافي في المستقبل القريب، أم أنّ التحديات ستكون أكبر من القدرة على تجاوزها؟
الباحثة الاقتصاديةً السوريّة سلام سعيد والتي تعمل حاليّاً كمديرة مشروع “سياسات اقتصاديّة من أجل عدالة اجتماعيّة” في منظمة “فريدريش إيبرت” في المنطقة العربيّة، تلفت إلى أنّ “قيمة الليرة السورية كانت في حالة انهيار ما قبل سيطرة المعارضة السورية والمرحلة الانتقالية الجديدة في البلد. وفي فترة العمليّات العسكرية، عانت سوريا من صعوبة في مواجهة تقلبات الليرة وتراجع قيمتها مقابل الدولار الأميركي حيث وصلت في دمشق وحلب إلى ما بين 24000 و 26000″، شارحةً لـ “نداء الوطن”، أنّ “أحد أسباب انخفاض سعر الليرة سابقاً كان ندرتها في السوق، حيث كان هناك قانون يُجرّم التعامل بالدولار الأميركي داخل الأراضي السوريّة، ما دفع المُقيمين إلى التعامل الخفيّ والتداول به في السوق السوداء غير الرسمي. إلى ذلك، كان من الإلزامي أن تتمّ كل التحويلات الماليّة من الخارج عبر البنك المركزي بهدف تصريفها وفق السعر الرسمي، في حين أنّ الأغلبيّة كانت تتفادى “التصريف” بهذا السعر على اعتبار أنه مُجحف لأن سعر السوق السوداء أغلى بكثير”.
تحديد سعر الصرف
تتابع سعيد: “الخطوة الأولى التي اتخذتها الحكومة السوريّة الانتقاليّة هي أنها حاولت تحقيق نوع من الاستقرار في سعر الليرة عن طريق تدخل البنك المركزي السوري لتحديد سعر الصرف ما بين 13000و14000 ليرة سورية للدولار الواحد، كذلك في السوق السوداء لم يرتفع الدولار لأكثر من 17000 ليرة”.
سببان لتحسّن سعر الليرة السوريّة
بناءً عليه، ترى سعيد أن “هناك سببيْن لتحسّن سعر الليرة في المرحلة الجديدة: الأوّل، هو أن عمليّة الضغط ومنع التداول بالدولار لم تعد موجودة، والطلب على الدولار تراجع. أمّا الثاني، فهو التدخل الرسمي لتثبيت سعر الصرف. لكن، من وجهة نظر اقتصادية بحتة، فإنّ قيمة العملة الوطنيّة تحدّدها قوة الاقتصاد لناحية التصدير والاستيراد والإنتاج والناتج الإجمالي المحلي والاستثمارات، في حين أن الاقتصاد السوري مُنهك جرّاء تداعيات الحرب. وإذا ارتكزنا نظريّاً على أسس الاقتصاد الحرّ البحتة، فإن تحرير الليرة السوريّة سيُفقدها نسبة كبيرة من قيمتها وسط الوضع الاقتصادي الحالي. أمّا عملياً، فالعديد من الدول حول العالم تتحكّم بقيمة عملتها بما يُحقّق سياستها الاقتصادية، مثلاً الصين تضغط على عملتها بشكل لا يعكس قوّة اقتصادها لتكون أدنى من قيمتها الحقيقية ما يُعزّز التصدير، أمّا أغلب دول العالم الثاني مثل لبنان وسوريا ومصر فعلى العكس تعمل على تمويل عملتها المحليّة منعاً لتراجعها بشكل دراماتيكي ما ينعكس ارتفاعاً في أسعار المستوردات وأسعار السلع الإستهلاكيّة المحليّة”.
تغيير العملة السوريّة
وعن لجوء الحكومة الجديدة لتغيير الليرة السوريّة بما يتناسب مع المرحلة الجديدة، تشير سعيد إلى أنّ “العملات الحاليّة مطبوعة بصور الرئيس السابق بشار الأسد ووالده مع رموز النظام السابق، بالتالي هذه تُعدّ من أبرز الدوافع لتغيير العملة. وبغض النظر عن الطباعة، هذا لا يعني أنها ستؤثرّ بالضرورة على تقلبات سعر العملة. هناك احتمال كبير بطباعة أوراق جديدة على غرار ما حصل في تركيا ولبنان عندما تراجعت قيمة عملتهما بقوّة، لكن هذه كلها أمور تقنيّة للتعامل مع الوضع المتدهور للعملة أكثر من كونها سياسة نقدية ضخمة”، معتبرةً أن “السياسة الأهم هي كيفيّة رفع قيمة الليرة السوريّة بما يعكس قوّة الاقتصاد مثل زيادة الصادرات، ولذلك نسمع مطالب تقدّم لكل القوى والجهات المُهتمّة بالوضع السوري لرفع العقوبات عن البلد، لا سيّما على القطاع المصرفي، إذْ أنه لم توضع عقوبات مباشرة على الصادرات من المواد الغدائيّة مثلاً، لكن التجارة الخارجيّة تتمّ عبر المصارف الخارجيّة التي تتفادى التعامل مع السورية كونها خاضعة للعقوبات، ما كان له أثر قوي على تقليص التجارة الخارجية الرسميّة. مع العلم، أنّ العمليّات غير الشرعية والتهريب أو إعادة التصدير والاستيراد استمرّت عبر بلدان أخرى وحدوديّة مثل لبنان الذي تمّ أيضاً الإعتماد على مصارفه للتعويض عن النقص الداخلي في الفترة الماضيّة”.
وتُعدّد سعيد العوامل الاقتصاديّة الأساسيّة المُمكن أنْ ترفع من قيمة العملة السوريّة وتؤثر عليها إيجاباً وهي “زيادة الطلب على الليرة في الداخل السوري، زيادة الصادرات والاستثمارات في البلد”.
تحديات اقتصاديّة
وعن أبرز التحديات الاقتصادية التي ستُواجه سوريا لا سيّما أنها أمام ورشة إعادة إعمار ضخمة، توضح أنّ “هناك الكثير من التحديات أوّلها أنّ سوريا تقسّمت إلى مناطق خلال الحرب وتهدّمت البنية التحتيّة التي كانت تربط هذه المناطق ببعضها، ما أدّى إلى تضرّر التجارة الداخليّة بشكل كبير وتأثرت سلاسل التوريد سلباً. أما التحدّي الثاني فهو رفع العقوبات التي طالت قطاعات مُختلفة وهذا القرار إنْ تم ستكون له انعكاسات إيجابيّة على الاقتصاد، لكن لا أؤيّد ولا بأيّ شكل رفع العقوبات عن مُجرمي الحرب الذين بنوا ثرواتهم عن طريق الفساد وتهريب الأموال وسلب المقدّرات السوريّة لمصالحهم الشخصيّة، لا بل يجب الاستمرار في تجميد أموالهم. والتحدّي الثالث هو نقص الموارد البشريّة لأنّ الجيل المتعلم والمهني والمثقف والمفكرين جميعهم هاجروا بسبب الحرب، وهنا من الضروري إعادة جذب اليد العاملة السوريّة. وإلى هذه التحديات، يُضاف نقص الاستثمارات الحكوميّة التي كانت من خلال السياسة الاقتصاديّة للنظام السابق القائم على تراكم الأموال لصالح الفئة الحاكمة، وكان عبارة عن “نظام مافياوي” حيث كانت كل مداخيل الخزينة العامة – إن كانت من القطاعيْن الرسمي أو غير الرسمي أو حتى غير الشرعي – تُضاف إلى ثروة وجيوب القيّمين على النظام. وبالتالي، لم يكن للدولة المال الكافي للاستثمار العام، الذي يعدّ أحد أهم عوامل النمو الاقتصادي عالمياً في المعاملات الاقتصاديّة الرقميّة ويُمكن الاعتماد عليه لجذب الاستثمارات الخاصة”.
ماذا عن الوعود الدوليّة؟
تتحدّث سعيد عن الوعود الدوليّة للمُساهمة في إعادة الإعمار ودعم الاقتصاد السوري، مؤكّدةً أنّ “هناك رغبة ووعوداً دوليّة أوروبيّة وخليجيّة لتقديم مساعدات، لكن لا نعرف بعد مدى جدّيتها وطبيعتها وشكلها وكيف ستتم بلورتها ومَن سيُديرها. في أي حالة مساعدة خارجيّة، من الضروري جداً وجود حكم جيد وإدارة غير فاسدة تدير هذه الأموال بشكل يعطي أثراً اقتصادياً إيجابياً يستفيد منه كل الشعب السوري وليس فقط النخبة الحاكمة”.
وتُوضح أنّ “المُساعدات الخارجية تنقسم إلى شقين: إنساني وتنموي. وتم خلق مُقاربة جديدة للملف السوري تمزج ما بين النوعين. النوع الإنساني يتخذ صفة العجلة أما التنموي فيمتدّ على المدى البعيد، وتأتي ما بينهما مساعدات التعافي التي تغطّي فترة قصيرة تمتدّ لأربع سنوات كحد أقصى”. تتابع: “تحقيق التنميّة ودفع العجلة الاقتصاديّة يحتاجان إلى مساعدات تنمويّة لأنّ الإنسانيّة تُعتَمَد لمُساعدة حالة معينة. بالتالي، ما تحتاجه سوريا هو الاستثمارات الخارجيّة والمساعدات التنمويّة التي لا تكون من دون مقابل ما يتطلّب أخذ الحذر. فعادةً ما تقدّم المُساعدات التنمويّة عبر صندوق النقد الدولي الذي يفرض سياسيات اقتصاديّة على الدول المدينة، لا تخدم بالضرورة تنمية اقتصاد البلد ولا تساعد أو تحقق العدالة الاجتماعية للمواطنين. وقد تدفع هذه الشروط المفروضة في اتجاه سياسة اقتصاديّة نيو ليبراليّة تزيد من الضرّر على السوريين الذين يُعانون أساساً من وضع اقتصادي واجتماعي سيئ للغاية”.
النظام الاقتصادي المنشود
عن توّقعاتها حول مستقبل سوريا الاقتصادي بناءً على المعطيات الراهنة، ترى سعيد أنه “لا يُمكن التكهن بعد. ما سمعناه من الإدارة الجديدة هو أنها ستنتهج نظاماً اقتصادياً ليبرالياً حرّاً، لكننا لا نعرف ما يعني ذلك، وكيف ستتعامل مع مُستحقّات الطبقة الاجتماعيّة الضعيفة وكيف ستدعمها من خلال سياسات الدعم والضرائب وأيضاً السياسات الاجتماعيّة”. وشدّدت على أن “سوريا بحاجة إلى نظام اقتصادي أكثر عدالة يأخذ في الاعتبار كل الفئات الاجتماعيّة ويعطي أولويّة للاقتصاد المحلي ولإعادة بناء البنية الاقتصاديّة والصناعيّة والزراعيّة كي تتمكّن من استئناف التصدير وتحسين العجلة الاقتصاديّة. ولم يتبيّن بعد وفق أي سياسة ورؤية ستقوم الحكومة الجديدة في ورشة إعادة الإعمار. في نظري من المهمّ جداً أن تتبع الطريقة التشاركيّة الكبيرة من الأسفل إلى الأعلى، بحيث يتمّ إشراك جميع أطياف الشعب على المستوى المحلي، وبهذه الطريقة فقط، يمكن أن يكون هناك دافع للكثير من السوريين والسوريات لإعادة الاستثمار المالي والفكري في بلدهم الأم. وإلا فإن السياسة المركزية من الأعلى إلى الأسفل ممكن أن تكون عاملاً ينفّر الاستثمارات السوريّة. كذلك، لا أشجع الحقنة الفوريّة التي تدخل المليارات إلى البلد دفعة واحدة، بل من المُفضل أن تدخل تدريجيّاً ضمن خطّة وطنيّة تأخد في الاعتبار تنمية كل المناطق”.
رماح هاشم – نداء الوطن
The post تحديّات اقتصاديّة كثيرة أمام سوريا… ووعود دوليّة وخليجيّة appeared first on LebanonFiles.