مقالات

لبنان: وطنٌ معلّق بين شظايا الداخل ووصايات الخارج

 

سمير باكير يكتب –
لبنان، هذا الكيان الاستثنائي في تركيبته وتاريخه، يبدو وكأنّه يعيش مفارقته الكبرى منذ نشأته: وطنٌ تتنازعُه الولاءات، ويتصدّع من داخله عند كلّ منعطف مصيري. ففي أشدّ الأزمات خطورة، السياسية منها والأمنية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، يعجز اللبنانيون، حكّاماً ومسؤولين ونخباً ومواطنين، عن الالتقاء على موقف وطني جامع يحمي الكيان ويصون الدولة.

الخيار الغالب في الحياة السياسية اللبنانية لم يكن يوماً التوافق على المصلحة الوطنية العليا، بل التباين في الفكر والممارسة والسلوك. يتحكّم العناد والنكايات والخصومات بمفاصل القرار، ولو كان الثمن مصير الوطن، وأمنه، وسيادته، ووحدة شعبه ومستقبله. وكأنّ الانقسام صار ثقافة، والاختلاف تحوّل إلى غاية بحدّ ذاته.

وعند كلّ أزمة كبرى، يكرّس اللبنانيون، بقياداتهم وأحزابهم، عادةً قديمة: البحث عن الحلّ خارج الحدود. يشعرون، في قرارة أنفسهم، بعجزٍ مزمن عن إدارة شؤونهم بأنفسهم، فيهرعون إلى عواصم القرار، صغيرة كانت أم كبيرة، فيتحوّلون إلى أدوات تنفيذ، يتلقّون الأوامر ويستجيبون للإملاءات، ويقدّمون الولاء مقابل الحماية أو المكاسب.

هذه ليست ظاهرة طارئة، بل مسار تاريخي طويل. من أحداث الاقتتال الطائفي في القرن التاسع عشر، مروراً بالانتداب والاستقلال وما بعده، وصولاً إلى يومنا هذا، لم ينجح اللبنانيون في استخلاص العبر من تاريخهم القاسي. في كلّ مواجهة مع الأخطار أو الغزوات، تتكرّر الأخطاء ذاتها، ويتقدّم السلوك الانقسامي على المصلحة الوطنية.

ألم يشهد التاريخ وقوف بعض القادة اللبنانيين إلى جانب قوى احتلال ضدّ أبناء وطنهم؟ ألم يكن لبنان من البلدان القليلة التي رحّبت بالانتداب، وخلّدت أسماء الغزاة في شوارع عاصمتها؟ وألم يشهد تواصلاً وتماهياً من بعض مسؤوليه وإعلامييه مع الحركة الصهيونية قبل قيام “إسرائيل” وبعدها؟

أيّ شعب في العالم ينقسم، وبلاده أو جزء منها تحت الاحتلال، بين مقاومٍ ومبرّرٍ وراضٍ بالأمر الواقع؟ هل انقسمت الشعوب الأوروبية أمام الاحتلال النازي، أم توحّدت بكلّ أطيافها للدفاع عن الأرض والكرامة؟ أليس من بديهيات التاريخ أنّ الشعوب، في زمن الحرب والتهديد الوجودي، تتجاوز خلافاتها لتواجه عدوّها صفاً واحداً؟

إنّ الرهان على “السلام” مع العدو الإسرائيلي ليس سوى وهمٍ استراتيجي. أطماع إسرائيل في لبنان لم تكن يوماً ظرفية أو عابرة، بل جزء من رؤية طويلة المدى تستهدف الأرض والموارد والدور والوجود. والاحتلال، كمرضٍ خبيث، إذا أصاب عضواً، فلن يسلم منه الجسد بأكمله.

كما أنّ الدول الكبرى، مهما رفعت شعارات الدعم والحرص، لا تعمل إلا وفق مصالحها. لا تبحث عن خلاص اللبنانيين، بل عن توظيفهم في مشاريعها ونفوذها، وتحويلهم إلى أوراق ضغط وأدوات تنفيذ.

مصير لبنان لا يُبنى بالكراهية، ولا بالنكايات، ولا بتصفية الحسابات الداخلية، ولا بالارتماء في أحضان قوى الهيمنة. دماء الشهداء تستحقّ موقف وفاء وطني جامع، لا إساءة ولا تشكيكاً ولا دعوات استسلام. تستحقّ وعياً أخلاقياً وإنسانياً يعلو فوق الطوائف والمذاهب، ويضع كرامة الوطن فوق كلّ اعتبار.

قبل أكثر من قرن ونصف، وصف الرحّالة والإنجيلي الأميركي وليام مك لور طومسون حال لبنان بدقّة لافتة، فرأى مجتمعاً متنوّعاً بلا رابط جامع، مجموعة شظايا متجاورة لا تشكّل كياناً واحداً، عاجزة عن التوحّد، ومعرّضة دوماً للتدخّل الخارجي. المؤلم أنّ هذا الوصف، بعد 155 عاماً، لا يزال يجد صداه في الواقع اللبناني.

الذهنية ذاتها، والسلوك ذاته، والارتهان ذاته للخارج. عجزٌ عن تجاوز الطائفية، وضيقٌ في الأفق الوطني، وخوفٌ مرضي من الآخر. كان بوسع من امتلكوا السلطة لعقود أن يبنوا دولة مواطنة حقيقية، لكنهم آثروا حماية النظام الطائفي، لأنه يضمن نفوذهم وامتيازاتهم.

السؤال الجوهري اليوم ليس متى يأتي “المخلّص” من الخارج، بل متى يقرّر اللبنانيون أن يكونوا هم خلاص أنفسهم. متى يتوحّدون لطيّ صفحة هذا التاريخ المثقل بالانقسامات، وبناء دولة تستحقّ اسمها، ودفاعاً يليق بوطنٍ حرّ، وشعبٍ يستحقّ الحياة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى